فصل: تابع: أصول مالك وأهل المدينة أصح الأصول

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 والشافعي - رضي الله عنه - قرر أصول أصحابه والكتاب والسنة وكان كثير الاتباع لما صح عنده من الحديث ولهذا كان عبد الله بن الحكم يقول لابنه محمد‏:‏ يا بني الزم هذا الرجل فإنه صاحب حجج فما بينك وبين أن تقول‏:‏ قال ابن القاسم فيضحك منك إلا أن تخرج من مصر‏.‏

قال محمد‏:‏ فلما صرت إلى العراق جلست إلى حلقة فيها ابن أبي داود فقلت‏:‏ قال ابن القاسم فقال‏:‏ ومن ابن القاسم‏؟‏ فقلت‏:‏ رجل مفت يقول من مصر إلى أقصى الغرب وأظنه قال‏:‏ قلت‏:‏ رحم الله أبي‏.‏

وكان مقصود أبيه‏:‏ اطلب الحجة لقول أصحابك ولا تتبع فالتقليد إنما يقبل حيث يعظم المقلد بخلاف الحجة فإنها تقبل في كل مكان، فإن الله أوجب على كل مجتهد أن يقول بموجب ما عنده من العلم والله يخص هذا من العلم والفهم ما لا يخص به هذا وقد يكون هذا هو المخصوص بمزيد العلم والفهم في نوع من العلم أو باب منه أو مسألة وهذا هو مخصوص بذلك في نوع آخر‏.‏

 

لكن جملة مذاهب أهل المدينة النبوية راجحة في الجملة على مذاهب أهل المغرب والمشرق، وذلك يظهر بقواعد جامعة‏:‏

 منها‏:‏ قاعدة الحلال والحرام المتعلقة بالنجاسات في المياه، فإنه من المعلوم أن الله قال في كتابه‏:‏ ‏{‏وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ‏.‏ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ‏}‏‏[‏الأعراف 156، 157‏]‏‏.‏ فالله تعالى أحل لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث والخبائث نوعان‏:‏ ما خبثه لعينه لمعنى قام به، كالدم والميتة ولحم الخنزير‏.‏ وما خبثه لكسبه كالمأخوذ ظلما؛ أو بعقد محرم كالربا والميسر‏.‏ فأما الأول‏:‏ فكل ما حرم ملابسته كالنجاسات حرم أكله، وليس كل ما حرم أكله حرمت ملابسته، كالسموم والله قد حرم علينا أشياء من المطاعم والمشارب، وحرم أشياء من الملابس‏.‏

 

ومعلوم أن مذهب أهل المدينة في الأشربة أشد من مذهب الكوفيين؛ فإن أهل المدينة وسائر الأمصار وفقهاء الحديث؛ يحرمون كل مسكر، وأن كل مسكر خمر وحرام، وأن ما أسكر كثيره فقليله حرام، ولم يتنازع في ذلك أهل المدينة لا أولهم ولا آخرهم، سواء كان من الثمار أو الحبوب؛ أو العسل أو لبن الخيل أو غير ذلك‏.‏

والكوفيون لا خمر عندهم إلا ما اشتد من عصير العنب، فإن طبخ قبل الاشتداد حتى ذهب ثلثاه حل، ونبيذ التمر والزبيب محرم؛ إذا كان مسكرًا نيئًا فإن طبخ أدنى طبخ حل، وإن أسكر‏.‏

وسائر الأنبذة تحل، وإن أسكرت، لكن يحرمون المسكر منها‏.‏

وأما الأطعمة‏:‏ فأهل الكوفة أشد فيها من أهل المدينة؛ فإنهم مع تحريم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير؛ وتحريم اللحم حتى يحرمون الضب والضبع والخيل، تحرم عندهم في أحد القولين، ومالك يحرم تحريمًا جازمًا ما جاء في القرآن فذوات الأنياب إما أن يحرمها تحريمًا دون ذلك، وإما أن يكرهها في المشهور، وروي عنه كراهة ذوات المخالب، والطير لا يحرم منها شيئًا، ولا يكرهه، وإن كان التحريم على مراتب، والخيل يكرهها، ورويت الإباحة والتحريم أيضًا‏.‏

ومن تدبر الأحاديث الصحيحة في هذا الباب علم أن أهل المدينة أتبع للسنة، فإن باب الأشربة قد ثبت فيه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من الأحاديث ما يعلم من علمها أنها من أبلغ المتواترات، بل قد صح عنه في النهي عن الخليطين والأوعية ما لا يخفى على عالم بالسنة، وأما الأطعمة، فإنه وإن قيل‏:‏ إن مالكا خالف أحاديث صحيحة في التحريم ففي ذلك خلاف‏.‏

والأحاديث الصحيحة التي خالفها؛ من حرم الضب وغيره تقاوم ذلك أو تربو عليه ثم إن هذه الأحاديث قليلة جدًا بالنسبة إلى أحاديث الأشربة‏.‏ وأيضًا فمالك معه في ذلك آثار عن السلف كابن عباس؛ وعائشة؛ وعبد الله بن عمر وغيرهم، مع ما تأوله من ظاهر القرآن‏.‏ ومبيح الأشربة ليس معه، لا نص، ولا قياس، بل قوله مخالف للنص والقياس‏.‏

وأيضًا فتحريم جنس الخمر، أشد من تحريم اللحوم الخبيثة، فإنها يجب اجتنابها مطلقا، ويجب على من شربها الحد، ولا يجوز اقتناؤها‏.‏

وأيضًا فمالك جوز إتلاف عينها، اتباعًا لما جاء من السنة في ذلك، ومنع من تخليلها وهذا كله فيه من اتباع السنة ما ليس في قول من خالفه من أهل الكوفة، فلما كان تحريم الشارع للأشربة المسكرة أشد من تحريمه للأطعمة؛ كان القول الذي يتضمن موافقة الشارع أصح‏.‏

ومما يوضح هذا؛ أن طائفة من أهل المدينة استحلت الغناء، حتى صار يحكى ذلك عن أهل المدينة، وقد قال عيسى بن إسحاق الطباع‏:‏ سئل مالك عما يترخص فيه بعض أهل المدينة من الغناء ‏؟‏ فقال‏:‏ إنما يفعله عندنا الفساق‏.‏ ومعلوم أن هذا أخف مما استحله من استحل الأشربة، فإنه ليس في تحريم الغناء من النصوص المستفيضة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ما في تحريم الأشربة المسكرة، فعلم أن أهل المدينة أتبع للسنة‏.‏

ثم إن من أعظم المسائل مسألة اختلاط الحلال بالحرام لعينه، كاختلاط النجاسات بالماء وسائر المائعات، فأهل الكوفة يحرمون كل ماء أو مائع وقعت فيه نجاسة، قليلًا كان أو كثيرًا ثم يقدرون مالا تصل إليه النجاسة بما لا تصل إليه الحركة، ويقدرونه بعشرة أذرع في عشرة أذرع، ثم منهم من يقول‏:‏ أن البئر إذا وقعت فيها النجاسة لم تطهر بل تطم‏.‏ والفقهاء منهم من يقول‏:‏ تنزح إما دلاء مقدرة منها، وإما جميعها على ما قد عرف لأجل قولهم‏:‏ ينجس الماء والمائع بوقوع النجاسة فيه، وأهل المدينة بعكس ذلك فلا ينجس الماء عندهم إلا إذا تغير‏.‏ لكن لهم في قليل الماء، هل يتنجس بقليل النجاسة ‏؟‏ قولان‏:‏ ومذهب أحمد قريب من ذلك، وكذلك الشافعي، لكن هذان يقدران القليل بما دون القلتين، دون مالك، وعن مالك في الأطعمة خلاف‏.‏

وكذلك في مذهب أحمد نزاع في سائر المائعات، ومعلوم أن هذا أشبه بالكتاب والسنة فإن اسم الماء باق، والاسم الذي به أبيح قبل الوقوع باق، وقد دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بئر بضاعة وغيره على أنه لا يتنجس، ولم يعارض ذلك إلا حديث ليس بصريح في محل النزاع فيه، وهو حديث النهي عن البول في الماء الدائم، فإنه قد يخص

البول، وخص بعضهم أن يبال فيه دون أن يجري إليه البول، وقد يخص ذلك بالماء

القليل، وقد يقال النهي عن البول لا مستلزم التنجيس، بل قد ينهى عنه لأن ذلك يفضي الى التنجيس، إذا كثر يقرر ذلك أنه لاتنازع بين المسلمين إن النهي عن البول في الماء الدائم، لا يعم جميع المياه، بل ماء البحر مستثنى بالنص والاجماع، وكذلك المصانع الكبار التي لا يمكن نزحها، ولا يتحرك أحد طرفيها بتحرك الطرف الآخر، لا ينجسه البول بالاتفاق، والحديث الصحيح لا يعارضه حديث في هذا الإجمال والاحتمال، وكذلك تنجس الماء المستعمل، ونحوه مذهب أهل المدينة ومن وافقهم في طهارته ثابت بالأحاديث الصحيحة عن النبى صلى الله عليه وسلم، كحديث صب وضوئه على جابر، وقوله المؤمن لا ينجس، وأمثال ذلك، وكذلك بول الصبي الذي لم يطعم مذهب بعض أهل المدينة، ومن وافقهم لهم فيه أحاديث صحيحة، عن النبى صلى الله عليه وسلم لا يعارضها شيء، وكذلك مذهب مالك، وأهل المدينة في أعيان النجاسات الظاهرة، في العبادات أشبه شيء بالأحاديث الصحيحة، وسيرة الصحابة، ثم إنهم لا يقولون بنجاسة البول والروث، مما يؤكل لحمه وعلى ذلك بضع عشرة حجة من النص والإجماع القديم، والاعتبار، ذكرناها في غير هذا الموضع، وليس مع المنجس إلا لفظ يظن عمومه، وليس بعام أو قياس يظن مساواة الفرع فيه للأصل، وليس كذلك، ولما كانت النجاسات من الخبائث المحرمة لأعيانها، ومذهبهم في ذلك أخذ من مذهب الكوفيين، كما في الأطعمة، كان ما ينجسونه أولئك أعظم، وإذا قيل له خالف حديث الولوغ ونحوه، في النجاسات فهو كما يقال أنه خالف حديث سباع الطير ونحوه ولا ريب أن هذا أقل مخالفة للنصوص ممن ينجس روث ما يؤكل لحمه وبوله، أو بعض ذلك، أو يكره سؤر الهرة، وقد ذهب بعض الناس إلى أن جميع

الأرواث والأبوال طاهرة، إلا بول الإنسي وعذرته، وليس هذا القول بأبعد في الحجة من قول من ينجس الذي يذهب إليه أهل المدينة، من أهل الكوفة، ومن وافقهم، ومن تدبر مذهب أهل المدينة وكان عالمًا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تبين له قطعًا أن مذهب أهل المدينة المنتضم للتيسير في هذا الباب أشبه بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المذهب المنتظم للتعسير، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما بال الأعرابي في المسجد وأمرهم بالصب على بوله قال‏:‏ إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين، وهذا مذهب أهل المدينة، وأهل الحديث، ومن خالفهم يقول أنه يغسل ولا يجزى الصب وروي في ذلك حديثًا مرسلًا لا يصح‏.‏

 فصل

وأما النوع الثاني من المحرمات وهو المحرم لكسبه؛ كالمأخوذ ظلمًا بأنواع الغصب من السرقة والخيانة والقهر؛ وكالمأخوذ بالربا والميسر؛ وكالمأخوذ عوضًا عن عين أو نفع محرم؛ كثمن الخمر والدم‏;‏ والخنزير والأصنام ومهر البغي وحلوان الكاهن؛ وأمثال ذلك‏:‏ فمذهب أهل المدينة في ذلك من أعدل المذاهب فإن تحريم الظلم، وما يستلزم الظلم أشد من تحريم النوع الأول؛ فإن الله حرم الخبائث من المطاعم إذ هي تغذى تغذية خبيثة، توجب للإنسان الظلم، كما إذا اغتذى من الخنزير والدم والسباع؛ فإن المغذى شبيه بالمغتذى به فيصير في نفسه من البغي والعدوان بحسب ما اغتذى منه‏.‏ وإباحتها للمضطر لأن مصلحة بقاء النفس مقدم على دفع هذه المفسدة، مع أن ذلك عارض لا يؤثر فيه مع الحاجة الشديدة أثرًا يضر‏.‏ وأما الظلم فمحرم قليله وكثيره وحرمه تعالى على نفسه، وجعله محرمًا على عباده‏.‏ وحرم الربا لأنه متضمن للظلم، فإنه أخذ فضل بلا مقابل له، وتحريم الربا أشد من تحريم الميسر الذي هو القمار؛ لأن المرابي قد أخذ فضلًا محققًا من محتاج وأما المقامر فقد يحصل له فضل، وقد لا يحصل له، وقد يقمر هذا هذا، وقد يكون بالعكس‏.‏

وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر؛ وعن بيع الملامسة والمنابذة، وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وبيع حبل الحبلة‏.‏ ونحو ذلك مما فيه نوع مقامرة، وأرخص في ذلك فيما تدعو الحاجة إليه، ويدخل تبعًا لغيره كما أرخص في ابتياعها بعد بدو صلاحها مبقاة إلى كمال الصلاح، وإن كان بعض أجزائها لم يخلق، وكما أرخص في ابتياع النخل المؤبّر مع جديده إذا اشترطه المبتاع وهو لم يبد صلاحه، وهذا جائز بإجماع المسلمين، وكذلك سائر الشجر الذي فيه ثمر ظاهر، وجعل للبائع ثمرة النخل المؤبّر، إذا لم يشترطها المشتري فتكون الشجرة للمشتري، والبائع ينتفع بها، بإبقاء ثمره عليها إلى حين الجذاذ‏.‏ وقد ثبت في الصحيح أنه أمر بوضع الجوائح وقال‏:‏ ‏(‏إن بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئًا بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق ‏؟‏‏)‏‏.‏ ومذهب مالك وأهل المدينة في هذا الباب أشبه بالسنة، والعدل من مذهب من خالفهم من أهل الكوفة وغيرهم، وذلك أن مخالفهم جعل البيع إذا وقع على موجود جاز، سواء كان قد بدا صلاحه أو لم يكن قد بدا صلاحه، وجعل موجب كل عقد قبض المبيع عقبه، ولم يجز تأخير القبض فقال‏:‏ أنه إذا اشترى الثمر باديًا صلاحه أو غير باد صلاحه جاز وموجب العقد القطع في الحال لا يسوغ له تأخير الثمر إلى تكمل صلاحه ولا يجوز له أن يشترطه‏.‏ وجعلوا ذلك القبض قبضًا ناقلًا للضمان إلى المشتري دون البائع وطردوا ذلك فقالوا‏:‏ إذا باع عينًا مؤجرة لم يصح لتأخير التسليم وقالوا‏:‏ إذا استثنى منفعة المبيع‏:‏ كظهر البعير وسكنى الدار لم يجز وذلك كله فرع على ذلك القياس‏.‏ وأهل المدينة وأهل الحديث خالفوهم في ذلك كله، واتبعوا النصوص الصحيحة، وهو موافقة القياس الصحيح العادل، فإن قول القائل‏:‏ العقد موجب القبض عقبه؛ يقال له‏:‏ موجب العقد إما أن يتلقى من الشارع؛ أو من قصد العاقد، والشارع ليس في كلامه ما يقتضي أن هذا يوجب موجب العقد مطلقًا، وأما المتعاقدان فهما تحت ما تراضيا به ويعقدان العقد عليه، فتارة يعقدان على أن يتقابضا عقبه، وتارة على أن يتأخر القبض كما في الثمر؛ فإن العقد المطلق يقتضي الحلول؛ ولهما تأجيله إذا كان لهما في التأجيل مصلحة فكذلك الأعيان؛ فإذا كانت العين المبيعة فيها منفعة للبائع أو غيره كالشجر الذي ثمره ظاهر، وكالعين المؤجرة وكالعين التي استثنى البائع نفعها مدة، لم يكن موجب هذا العقد أن يقتضي المشتري ما ليس له؛ وما لم يملكه إذا كان له أن يبيع بعض العين دون بعض، كان له أن يبيعها دون منفعتها‏.‏ ثم سواء قيل‏:‏ إن المشتري يقبض العين أو قيل‏:‏ لا يقبضها بحال‏:‏ لا يضر ذلك؛ فإن القبض في البيع ليس هو من تمام العقد، كما هو في الرهن بل الملك يحصل قبل القبض للمشتري تابعًا، ويكون نماء المبيع له بلا نزاع، وإن كان في يد البائع، ولكن أثر القبض، إما في الضمان، وإما في جواز التصرف‏.‏ وقد ثبت عن ابن عمر أنه قال‏:‏ مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيًا مجموعًا فهو من ضمان المشتري‏.‏

ولهذا ذهب إلى ذلك أهل المدينة وأهل الحديث؛ فإن تعليق الضمان بالتمكين من القبض، أحسن من تعليقه بنفس القبض، وبهذا جاءت السنة ففي الثمار التي أصابتها جائحة لم يتمكن المشتري من الجذاذ، وكان معذورًا، فإذا تلفت كانت من ضمان البائع؛ ولهذا التي تلفت بعد تفريطه في القبض كانت من ضمانه، والعبد والدابة التي تمكن من قبضها تكون من ضمانه على حديث علي وابن عمر‏.‏ ومن جعل التصرف تابعًا للضمان فقد غلط؛ فإنهم متفقون على أن منافع الإجارة إذا تلفت قبل تمكن المستأجر من استيفائها كانت من ضمان المؤجر، ومع هذا للمستأجر أن يؤجرها بمثل الأجرة وإنما تنازعوا في إيجارها بأكثر من الأجرة لئلا يكون ذلك ربحًا فيما لا يضمن، والصحيح جواز ذلك؛ لأنها مضمونة على المستأجر، فإنها إذا تلفت مع تمكنه من الاستيفاء كانت من ضمانه، ولكن إذا تلفت قبل تمكنه من الاستيفاء لم يكن من ضمانه‏.‏ وهذا هو الأصل أيضًا؛ فقد ثبت في الصحيح عن ابن عمر أنه قال كنا نبتاع الطعام جزافًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى أن نبيعه حتى ننقله إلى رحالنا‏.‏

وابن عمر هو القائل‏:‏ مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيًا مجموعًا فهو من ضمان المشتري‏.‏

فتبين أن مثل هذا الطعام مضمون على المشتري، ولا يبيعه حتى ينقله، وغلة الثمار والمنافع له أن يتصرف فيها، ولو تلفت قبل التمكن من قبضها، كانت من ضمان المؤجر، والبائع والمنافع لا يمكن التصرف فيها إلا بعد استيفائها، وكذلك الثمار لا تباع على الأشجار بعد الجذاذ، بخلاف الطعام المنقول‏.‏ والسنة في هذا الباب فرقت بين القادر على القبض، وغير القادر في الضمان والتصرف، فأهل المدينة أتبع للسنة في هذا الحكم كله، وقولهم أعدل من قول من يخالف السنة‏.‏ ونظائر هذا كثير مثل بيع الأعيان الغائبة‏:‏ من الفقهاء من جوز بيعها مطلقًا، وإن لم توصف، ومنهم من منع بيعها مع الوصف؛ ومالك جوز بيعها مع الصفة دون غيرها وهذا أعدل‏.‏ والعقود من الناس من أوجب فيها الألفاظ وتعاقب الإيجاب والقبول ونحو ذلك، وأهل المدينة جعلوا المرجع في العقود إلى عرف الناس وعادتهم، فما عده الناس بيعًا فهو بيع، وما عدوه إجارة فهو إجارة، وما عدوه هبة فهو هبة، وهذا أشبه بالكتاب والسنة وأعدل فإن الأسماء منها ما له حد في اللغة، كالشمس والقمر، ومنها ما له حد في الشرع كالصلاة والحج، ومنها ما ليس له حد لا في اللغة ولا في الشرع بل يرجع إلى العرف كالقبض‏.‏ ومعلوم أن اسم البيع والإجارة والهبة، في هذا الباب لم يحدها الشارع، ولا لها حد في اللغة؛ بل يتنوع ذلك بحسب عادات الناس وعرفهم، فما عدوه بيعًا فهو بيع، وما عدوه هبة فهو هبة، وما عدوه إجارة فهو إجارة‏.‏ ومن هذا الباب أن مالكاَ يجوز بيع المغيب في الأرض كالجزر واللفت وبيع المقاثي جملة، كما يُجَوز هو والجمهور بيع الباقلاء ونحوه في قشره‏.‏ ولا ريب أن هذا هو الذي عليه عمل المسلمين من زمن نبيهم صلى الله عليه وسلم وإلى هذا التاريخ، ولا تقوم مصلحة الناس بدون هذا، وما يظن أن هذا نوع غرر، فمثله جائز في غيره من البيوع، لأنه يسير والحاجة داعية إليه، وكل واحد من هذين يبيح ذلك، فكيف إذا اجتمعا ‏؟‏ وكذلك ما يجوز مالك من منفعة الشجر تبعًا للأرض مثل أن يكري أرضًا أو دارًا فيها شجرة أو شجرتان هو أشبه بالأصول من قول من منع ذلك‏.‏ وقد يجوز ذلك طائفة من أصحاب أحمد بن حنبل مطلقًا، وجوزوا ضمان الحديقة التي فيها أرض وشجر، كما فعل عمر بن الخطاب لما قبل الحديقة من أسيد بن الحضير ثلثًا، وقضى بما تسلفه دينًا، كان عليه وقد بسطت الكلام على هذه المسألة في غير هذا الموضع‏.‏ وهذا يتبين بذكر الربا؛ فإن تحريم الربا أشد من تحريم القمار ‏,‏ لأنه ظلم محقق ‏,‏والله سبحانه وتعالى لما جعل خلقه نوعين‏:‏ غنيًا وفقيرًا أوجب على الأغنياء الزكاة، حقًا للفقراء، ومنع الأغنياء عن الربا الذي يضر الفقراء، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ‏}‏‏[‏البقرة 276‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ‏}‏‏[‏الروم 39‏]‏‏.‏ فالظالمون يمنعون الزكاة، ويأكلون الربا، وأما القمار فكل من المتقامرين قد يقمر الآخر، وقد يكون المقمور هو الغني أو يكونان متساويين في الغنى والفقر، فهو أكل مال بالباطل، فحرمه الله، لكن ليس فيه من ظلم المحتاج وضرره ما في الربا، ومعلوم أن ظلم المحتاج أعظم من ظلم غير المحتاج‏.‏ ومعلوم أن أهل المدينة حرموا الربا ومنعوا التحيل على استحلاله، وسدوا الذريعة المفضية إليه، فأين هذا ممن يسوغ الاحتيال على أخذه ‏؟‏ بل يدل الناس على ذلك‏.‏ وهذا يظهر بذكر مثلًا ربا الفضل وربا النسأ‏.‏ أما ربا الفضل فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة، واتفق جمهور الصحابة والتابعين، والأئمة الأربعة على أنه لا يباع الذهب والفضة والحنطة والشعير والتمر والزبيب بجنسه إلا مثلًا بمثل؛ إذ الزيادة على المثل أكل مال بالباطل وظلم، فإذا أراد المدين أن يبيع مائة دينار مكسور، وزنه مائة وعشرون دينارًا؛ يسوغ له مبيح الحيل أن يضيف إلى ذلك رغيف خبز أو منديل يوضع فيه مائة دينار؛ ونحو ذلك مما يسهل على كل مرب فعله‏:‏ لم يكن لتحريم الربا فائدة ولا فيه حكمة ولا يشاء مرب أن يبيع نوعًا من هذا بأكثر منه من جنسه إلا أمكنه أن يضم إلى القليل ما لا قدر له من هذه الأمور‏.‏ وكذلك إذا سوغ لهما أن يتواطآ على أن يبيعه إياه بعرض لا قصد للمشتري فيه ‏,‏ ثم يبتاعه منه بالثمن الكثير أمكن طالب الربا أن يفعل ذلك‏.‏

ومعلوم أن من هو دون الرسول، إذا حرم شيئًا لما فيه من الفساد، وأذن أن يفعل بطريق لا فائدة فيه، لكان هذا عيبًا وسفهًا؛ فإن الفساد باق، ولكن زادهم غشًا، وإن كان فيه كلفة فقد كلفهم ما لا فائدة فيه، فكيف يظن هذا بالرسول صلى الله عليه وسلم ‏؟‏ بل معلوم أن الملوك لو نهوا عما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، واحتال المنهي على ما نهي عنه بمثل هذه الطريق، لعدوه لاعبًا مستهزئًا بأوامرهم وقد عذب الله أهل الجنة الذين احتالوا على ألا يتصدقوا، وعذب الله القرية التي كانت حاضرة البحر لما استحلوا المحرم بالحيلة، بأن مسخهم قردة وخنازير، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏(‏لا تركبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا ما حرم الله بأدنى الحيل‏)‏‏.‏ وقد بسطنا الكلام على ‏[‏قاعدة إبطال الحيل وسد الذرائع‏]‏ في كتاب كبير مفرد، وقررنا فيه مذهب أهل المدينة بالكتاب والسنة، وإجماع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار‏.‏

وكذلك ربا النسأ فإن أهل ثقيف الذين نزل فيهم القرآن، أن الرجل كان يأتي إلى الغريم عند حلول الأجل فيقول‏:‏ أتقضي أم تربي ‏؟‏ فإن لم يقضه وإلا زاده المدين في المال، وزاده الطالب في الأجل، فيضاعف المال في المدة لأجل التأخير‏.‏ وهذا هو الربا الذي لا يشك فيه باتفاق سلف الأمة، وفيه نزل القرآن، والظلم والضرر فيه ظاهر‏.‏ والله سبحانه وتعالى أحل البيع، وأحل التجارة، وحرم الربا، فالمبتاع يبتاع ما يستنفع به كطعام ولباس ومسكن ومركب وغير ذلك، والتاجر يشتري ما يريد أن يبيعه ليربح فيه، وأما آخذ الربا فإنما مقصوده أن يأخذ دراهم بدراهم إلى أجل، فيلزم الآخر أكثر مما أخذ بلا فائدة حصلت له، لم يبع ولم يتجر، والمربي آكل مال بالباطل بظلمه، ولم ينفع الناس لا بتجارة ولا غيرها؛ بل ينفق دراهمه بزيادة بلا منفعة حصلت له، ولا للناس‏.‏

فإذا كان هذا مقصودهما فبأي شيء توصلوا إليه حصل الفساد والظلم، مثل أن تواطآ على أن يبيعه ثم يبتاعه، فهذه بيعتان في بيعة، وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا‏)‏ مثل أن يدخل بينهما محللًا يبتاع منه أحدهما ما لا غرض له فيه ليبيعه آكل الربا لموكله في الربا ثم الموكل يرده إلى المحلل بما نقص من الثمن‏.‏

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ‏(‏لعن آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه ‏)‏ ‏(‏ ولعن المحلل والمحلل له‏)‏‏.‏ ومثل أن يضما إلى الربا نوع قرض، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك‏)‏، خطأ ثم ‏(‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة والمحاقلة‏)‏‏.‏ وهو اشتراء الثمر والحب بخرص، وكما نهى عن بيع الصبرة من الطعام لا يعلم كيلها بالطعام المسمى؛ لأن الجهل بالتساوي فيما يشترط فيه التساوي كالعلم بالتفاضل، والخرص لا يعرف مقدار المكال، إنما هو حزر وحدس، وهذا متفق عليه بين الأئمة‏.‏ ثم إنه قد ثبت عنه أنه أرخص في العرايا يبتاعها أهلها بخرصها تمرًا، فيجوز ابتياع الربوي هنا بخرصه، وأقام الخرص عند الحاجة مقام الكيل، وهذا من تمام محاسن الشريعة، كما أنه في العلم بالزكاة وفي المقاسمة أقام الخرص مقام الكيل، فكان يخرص الثمار على أهلها يحصي الزكاة، وكان عبد الله بن رواحة يقاسم أهل خيبر خرصًا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أنه إذا أمكن التقدير بالكيل فعل، فإذا لم يمكن كان الخرص قائمًا مقامه للحاجة كسائر الأبدال في المعلوم والعلامة؛ فإن القياس يقوم مقام النص عند عدمه والتقويم يقوم مقام المثل، وعدم الثمن المسمى عند تعذر المثل والثمن المسمى‏.‏

ومن هذا الباب القافة التي هي استدلال بالشبه على النسب، إذا تعذر الاستدلال بالقرائن؛ إذ الولد يشبه والده في الخرص والقافة والتقويم أبدال في العلم كالقياس مع النص، وكذلك العدل في العمل؛ فإن الشريعة مبناها على العدل، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ‏}‏‏[‏الحديد 25‏]‏‏.‏ ‏{‏ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ‏}‏‏[‏البقرة 286‏]‏‏.‏

والله قد شرع القصاص في النفوس والأموال والأعراض بحسب الإمكان فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ‏}‏‏[‏البقرة 178‏]‏‏.‏ الآية وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ‏}‏‏[‏المائدة 45‏]‏‏.‏ الآية وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ‏}‏‏[‏الشورى 40‏]‏ الآية وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ‏}‏‏[‏البقرة 194‏]‏ الآية وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ‏}‏‏[‏النحل 126‏]‏‏.‏ الآية فإذا قتل الرجل من يكافئه عمدًا عدوانًا، كان عليه القود، ثم يجوز أن يفعل به مثل ما فعل؛ كما يقوله أهل المدينة ومن وافقهم كالشافعي وأحمد في إحدى الروايتين بحسب الإمكان؛ إذا لم يكن تحريمه بحق الله كما إذا رضخ رأسه كما ‏(‏رضخ النبي صلى الله عليه وسلم رأس اليهودي الذي رضخ رأس الجارية‏)‏ كان ذلك أتم في العدل بمن قتله بالسيف في عنقه، وإذا تعذر القصاص عدل إلى الدية، وكانت الدية بدلًا لتعذر المثل‏.‏ وإذا أتلف له مالًا؛ كما لو تلفت تحت يده العارية‏:‏ فعليه مثله، إن كان له مثل، وإن تعذر المثل كانت القيمة، وهي الدراهم والدنانير، بدلًا عند تعذر المثل، ولهذا كان من أوجب المثل في كل شيء، بحسب الإمكان مع مراعاة القيمة أقرب إلى العدل ممن أوجب القيمة من غير المثل، وفي هذا كانت قصة داود وسليمان‏.‏ وقد بسطنا الكلام على هذه الأبواب كلها في غير هذا الموضع، وإنما المقصود هنا‏:‏ التنبيه‏.‏

وحينئذ فتجويز العرايا أن تباع بخرصها لأجل الحاجة عند تعذر بيعها بالكيل، موافق لأصول الشريعة مع ثبوت السنة الصحيحة فيه، وهو مذهب أهل المدينة، وأهل الحديث، ومالك جوز الخرص في نظير ذلك للحاجة، وهذا عين الفقه الصحيح‏.‏ ومذهب أهل المدينة ومن وافقهم كالشافعي، وأحمد في جزاء الصيد‏:‏ أنه يضمن بالمثل في الصورة، كما مضت بذلك السنة وأقضية الصحابة، فإن في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الضبع بكبش، وقضت الصحابة في النعامة ببدنة، وفي الظبي بشاة، وأمثال ذلك‏.‏ ومن خالفهم من أهل الكوفة، إنما يوجب القيمة في جزاء الصيد، وأنه يشتري بالقيمة الأنعام والقيمة مختلفة باختلاف الأوقات‏.‏

 

فصل

ولما كان المحرم نوعين‏:‏ نوع لعينه، ونوع لكسبه؛ فالكسب الذي هو معاملة الناس نوعان‏:‏ معاوضة؛ ومشاركة‏.‏ فالمبايعة والمؤاجرة، ونحو ذلك هي المعاوضة‏.‏ وأما المشاركة، فمثل مشاركة العنان وغيرها من المشاركات‏.‏ ومذهب مالك في المشاركات من أصح المذاهب وأعدلها؛ فإنه يجوز شركة العنان والأبدان وغيرهما، ويجوز المضاربة والمزارعة والمساقاة، والشافعي لا يجوز من الشركة إلا ما كان تبعًا لشركة الملك؛ فإن الشركة نوعان‏:‏ شركة في الأملاك؛ وشركة في العقود‏.‏ فأما شركة الأملاك، كاشتراك الورثة في الميراث، فهذا لا يحتاج إلى عقد، ولكن إذا اشترك اثنان في عقد، فمذهب الشافعي أن الشركة لا تحصل بعقد ولا تحصل القسمة بعقد‏.‏ وأحمد تحصل الشركة عنده بالعقد والقسمة بالعقد، فيجوز شركة العنان مع اختلاف المالين وعدم الاختلاط، وإذا تحاسب الشريكان عنده من غير إفراز كان ذلك قسمة حتى لو خسر المال بعد ذلك لم تجبر الوضيعة بالربح‏.‏ والشافعي لا يجوز شركة الأبدان ولا الوجوه ولا الشركة بدون خلط المالين، ولا أن يشترط لأحدهما ربحًا زائدًا على نصيب الآخر من ماله إذ لا تأثير عنده للعقد، وجوز المضاربة وبعض المساقاة والمزارعة تبعًا لأجل الحاجة لا لوفق القياس‏.‏ وأما أبو حنيفة نفسه فلا يجوز مساقاة ولا مزارعة؛ لأنه رأى ذلك من باب المؤاجرة، والمؤاجرة لا بد فيها من العلم بالأجرة‏.‏ ومالك في هذا الباب أوسع منهما، حيث جوز المساقاة على جميع الثمار، مع تجويز الأنواع من المشاركات التي هي شركة العنان والأبدان، لكنه لم يجوز المزارعة على الأرض البيضاء موافقة للكوفيين‏.‏ وأما قدماء أهل المدينة هم وغيرهم من الصحابة والتابعين، فكانوا يجوزون هذا كله، وهو قول الليث؛ و ابن أبي ليلى وأبي يوسف؛ ومحمد وفقهاء الحديث كأحمد بن حنبل وغيره‏.‏

والشبهة التي منعت أولئك المعاملة‏:‏ أنهم ظنوا أن هذه المعاملة إجارة، والإجارة لا بد فيها من العلم بقدر الأجرة، ثم استثنوا من ذلك المضاربة لأجل الحاجة؛ إذ الدراهم لا تؤجر‏.‏ والصواب أن هذه المعاملات من نفس المشاركات، لا من جنس المعاوضات؛ فإن المستأجر يقصد استيفاء العمل، كما يقصد استيفاء عمل الخياط والخباز والطباخ ونحوهم، وأما في هذا الباب فليس العمل هو المقصود، بل هذا يبذل نفع بدنه، وهذا يبذل نفع ماله ليشتركا فيما رزق الله من ربح، فإما يغنمان جميعًا أو يغرمان جميعًا وعلى هذاعامل النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر أن يعمروها من أموالهم بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع‏.‏

والذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من كراء المزارعة، في حديث رافع بن خديج وغيره، متفق عليه كما ذكره الليث وغيره؛ فإنه ‏(‏ نهى أن يكرى بما تنبت الماذيانات والجداول وشيء من التبن‏)‏ فربما غل هذا، ولم يغل هذا، فنهى أن يعين المالك زرع بقعة بعينها، كما نهى في المضاربة أن يعين العامل مقدارًا من الربح وربح ثوب بعينه، لأن ذلك يبطل العدل في المشاركة‏.‏ وأصل أهل المدينة في هذا الباب أصح من أصل غيرهم، الذي يوجب أجرة المثل، والأول هو الصواب؛ فإن العقد لم يكن على عمل، ولهذا لم يشترط العلم بالعمل، وقد تكون أجرة المثل أكثر من المال وربحه ‏,‏ فإنما يستحق في الفاسد نظير ما يستحق من الصحيح، فإذا كان الواجب في البيع والإجارة الصحيحة ثمنا وأجرة، وجب في الفاسد قسط من الربح كان الواجب في الفاسد قسطًا من الربح، وكذلك في المساقاة والمزارعة وغيرهما‏.‏ وما يضعف في هذا الباب من قول متأخري أهل المدينة، فقول الكوفيين فيه أضعف، ويشبه أن يكون هذا كله من الرأي المحدث الذي علم به من عابه من السلف، وأما ما مضت به السنة والعمل فهو العدل‏.‏

ومن تدبر الأصول تبين له أن المساقاة والمزارعة والمضاربة أقرب إلى العدل من المؤاجرة؛ فإن المؤاجرة مخاطرة، والمستأجر قد ينتفع وقد لا ينتفع، بخلاف المساقاة والمزارعة، فإنهما يشتركان في الغنم والغرم، فليس فيها من المخاطرة من أحد الجانبين ما في المؤاجرة‏.‏